إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

الأخلاق منظومة إنسانية قديمة قدم الإنسان. قامت المجتمعات بوضع فلسفتها كأدوات و نواميس تحدد التعامل بين الأفراد لبيان كل ما هو ملائم  و ما هو غير ملائم سواء كان بالنيات أو بالقرارات و التصرفات الفردية في التعامل المجتمعي. و من هذه الفلسفات الأخلاقية تطور مفهوم الخير و الشر و الذي شرعت على أساسها القوانين و آليات القصاص فنتجت عنها منظومات عدة تتباين حسب ثقافة أو دين أو فلسفة المجتمعات. لكن هذا التباين لا يكون فقط بين المجتمعات المختلفة بل هو عامل طبيعي للمجتمع نفسه و الذي يخضع لتغيرات الزمن. فالصفات الأخلاقية, حسب علماء الأنثروبولوجيا-علم الإنسان- و علماء السوشيوبايولوجي, هي صفات ذاتية للأفراد تكون خاضعة لقوانين التطور مع الزمن من أجل بقاء النوع. فمن رحم هذا التطور الذاتي للأفراد تكونت بوصلة الخير و الشر الذاتية. فما كان مقبولا في السابق أصبح منفرا في الوقت الحالي. مثال على ذلك هو إقتناء العبيد و زواج القاصرات.

يقول عالم البيولوجيا ريتشارد داوكنز في كتابه “الله الوهم” أن التاريخ الأخلاقي

 Moral Zeitgeist

 مستمر في عمله بتطور الإنسان حتى يتسامى  إلى درجة التضحية بالنفس من أجل الجماعة أو الألترويزم أو حب الآخر من غير شروط – بما يشابه حب الوالدين لأبنائهما. ففي أوربا القرن الرابع عشر مثلا كانت القطط تذبح بمجاميعها بسبب إعتقاد الناس أنها مرتبطة بالشياطين, و كان الناس المجتمعون يهللون و يصفقون عند حرقها و هي حية. و إن حدث هذا الآن لنال ذلك سخط المشاهدين و إشمئزازهم.فبالتعاملات و التجارب الإجتماعية ولدت المبادئ و تطورت مع الزمن في الحدود الأقليمية  و الحدود العالمية بعد المحاولة و الخطأ على أرض الواقع  و ذلك كي تتمكن الأمم مختلفة الثقافات من التعامل و التفاهم و التعايش بصورة سلمية كريمة عندما يتم الإتفاق علي مبادئ إنسانية موحدة تلتزم بها الدول كأدني شروط, مستندين على القانون الذهبي “عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك”. فكان نتيجة ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و الذي تبنته هيئة الأمم المتحدة في سنة 1948 بعد تجربة الحرب العالمية الثانية.

و من الخطأ الشائع ربط المبادئ الأخلاقية للتعامل بين البشر بالمنظومة الدينية كأساس و منبع على الرغم من إرتباطها التاريخي بها. فلكي تكتسب هذه المنظومة قوتها التشريعية  و الإحترازية في المجتمعات البدائية فلقد تم ربطها بالعقائد السائدة كأوامر إلاهية.  فأول منظومة قانونية ظهرت في التاريخ البشري كانت شرائع الملك حمورابي في بابل-العراق حاليا- حدد فيها ما يجب و مالا يجب على الفرد القيام به و تم ربطها بمنظومة للجزاء يتناسب فيه القصاص- حسب رؤية زمنهم- مع الجرم. و صورت كأوامر من الإلاه مردوخ ليكتسب شرعية فوق بشرية. ففي ألف خمسمئة سنة أوأكثر قبل الميلاد لم تكن المنظومة الأخلاقية الذاتية للفرد -و الذي هو المنبع و الأساس لهذه المبادئ – قد تطورت بدرجة كافية لتجبره على التقيد بالقوانين كمسئولية الفرد تجاه الجماعة أو كمسئولية مواطن تجاه بلده. ولأن الأديان كانت و لازالت مرتبطة بالسياسة و السلطة فالمنظومة الأخلاقية فيها تعدت التعاملات الإنسانية السامية كالأمانة و إحترام الآخر و مساعدة المحتاج إلي أمور لا أخلاقية كالتدخل في الشئون الخاصة للأفراد و إعطاء الشرعية الدينية لمصطلح الشرف التقليدي المرتبط بالجهاز التناسلي للمرأة في المجتمعات الأبوية الذكورية, فثبت نتيجة لذلك قوانين تؤكد على إضطهاد أكثر من نصف المجتمع لصالح النصف الآخر. و هذا ينطبق و بصور متفاوتة حتى على الديانة البوذية و التي تعتبر الأكثر إنسانية و تسامح بين الديانات على الإطلاق.